في الليل، وعندما أقفُ في مكانٍ مرتفع في المدينة، أشاهدُ المدارس وكأنها شموعٌ تتوهجُ في عتمة الليل، وعلى ضوئها أتأملُ مشاهد الأطفال وهم يخرجون من بيوتهم كل صباح، منطلقين إلى غدٍ لا يقرؤون له ملامح، غير ملامح الخوف التي ترسمها لهم المحبّطات، وتكادُ ألوان لوحاته مرسومة على جدران المنازل وفي الطرقات، لكنهم لايقرؤونها إلا كما يراها الكبار ويُملونها عليهم ليل نهار ..
تلك المدارس بلا شكّ هي المصانع التي تُدارُ فيها عمليات إنتاج المستقبل، والصناعةُ الحقيقية للدول والحضارات لا تنطلقُ إلا من بين أسوارها، والسؤال المهم هنا: هل ما يتم في مدارسنا من عمليات تربوية وتعليمية يُبشّر بمستقبل مشرق؟!
في هذه المقالة أتحدثُ عن حالة (صناعةٍ) مختلفة تحصل الآن في الابتدائية الواحدة والعشرين للبنات بسكاكا، فهناك (أنعمَ) الله على تلميذات تلك المدرسة ومعلماتها ومجتمعها بقائدةٍ تربوية عرفتْ كيف تجعل من مدرستها (بيئةً جاذبة) من خلال تطبيق (فلسفة) إدارية قلّما سمعتُ عنها في مجتمعنا .
لا أكتبُ الآن معتمداً على إذاعةٍ ساذجة، أو تواتر أجْوَف، لكنني أعيش أجواء المدرسة من خلال شقيقتي المعلمة المخلصة التي تعملُ في تلك المدرسة، وحتى لو كانت شهادتي (مجروحة) كما يفهمها البعض إلا إنني لن أمرّ من هنا دون الفخر بما تقدمه من خلال تدريسها الإبداعي لتلميذات الصف الأول مع زميلتها الأخرى، وهي تستحقّ منّي كتابة مقالات مطوّلة فيما تقدمه من رسالة عظيمة آمنت بها، فصارت بالنسبة لها الهواء الذي تتنفسه والماء الذي تشربه، حتى باتتْ تملك الدنيا ولا تسعها فخراً وسعادة حين تجني ثمار جهدها مع تلميذاتها الصغيرات ..
أعودُ إلى قائدة المدرسة، التي حوّلت بيئة مدرستها إلى (تُحفةٍ) أنيقة تسرُّ الناظرين، ففي ممراتها تنتشرُ أوراق الشجر الخضراء، وتُشرقُ الأرضُ لمعاناً من شدّة النظافة، وحين حققت جزءاً من طموحها في تحسين وتطوير بيئة المدرسة، انتقلت إلى مرحلةٍ هي الأهم والأبلغ، حيث صنعتْ (فريقاً) من المعلمات تشعرُ كل واحدةٍ منهنّ بأنها تعملُ في بيتها، وتقدمُ ما تستطيع من أجل أن ترتقي هذه المدرسة الأنيقة .
تلك الروح الجماعية العالية التي صنعتها القائدة، لم تكن عائقاً أمام حالةٍ من (التنافس الشريف) خلقتها من خلال اعتمادها سياسة (التحفيز) إيجابياً وسلباً، فكانت النشرات اليومية التي تُعمّمها على المعلمات وتضمنّها ملاحظات إيجابية وسلبية بأسمائهن، كانت ذات مردودٍ كبير وأثر بالغ الشدّة على أداء كل معلمة، فصارت كل واحدةٍ منهنّ تعملُ بمنتهى الإخلاص وترقبُ (يوم التتويج السنوي) الذي تقيمه القائدة نهاية كل عام، وتوزّع فيه مكافآت (الإخلاص) على كل مربية فاضلة قدّمت شيئاً للمدرسة، وكل هذا في جوٍّ من العلاقات الإنسانية الراقية، أجبرت الفريق كاملاً على احترام تعليمات وتوجيهات القائدة بصدرٍ لا أرحب منه ..
أمّا التلميذات، فهي ومن خلال تعاملها الذي لا يخلو من قسوةِ الأمّ الحنون أحياناً، قد جعلت قلوبهنّ تهفو إليها من بعيد، ولا تترددُ تلميذةٌ صغيرة في الانطلاق نحو القائدة الفاضلة والارتماء في أحضانها وكأنها صارت (أمّاً) لكل طفلة في المدرسة، لكنها حين ترى مخالفةً ما، تصرّ على إصلاحها حتى ولو تطلّبَ الأمرُ مخالفةً (لإجماع) المجتمع وأولياء الأمور، وهنا تكمنُ إرادة القائد الذي يؤمن برسالته وأفكاره، ويمضي قُدُماً من أجل تحقيقها مهما كانت الصعوبات ..
في الابتدائية الواحدة والعشرين تتمّ الصناعة الصحيحة للمستقبل الصحيح، فهناك التربية والتعليم يشكّلان ثنائيةً تستحق الاحترام والتصفيق إعجاباً (لرائدةٍ) نذرتْ نفسها من أجل بناء الإنسان، فرفضتْ كل الفرص القيادية التي أُتيحت لها في الإدارة العامة للتربية والتعليم للبنات، رفضتها إيماناً منها بأن وجودها في الحياة من أجل البناء ميدانياً، وجني الثمار واقعياً، بعيداً عن أوراق التنظير (وبيروقراطية) المكاتب القاتلة لكل طموحٍ ..
مما ترويه لي شقيقتي المعلمة، وأذهلني عَجباً واستغراباً، هو أنها تتعاملُ بذاتِ الرقي والاحترام مع جميع العاملات في المدرسة، فالتلميذة والمعلمة والإدارية (والمستخدمة) كلّهنّ سواعدَ بناء في المدرسة، وعناصر مهمة جداً – من وجهة نظرها – من أجل تحقيق (منتجٍ) جيد في نهاية العام يُعتبر مصدر الراحة والمصالحة مع النّفس !
في بهو المدرسة يقعُ المسرح مثل (حلّةٍ) جميلة تتمُّ فوق خشبتها قفزاتُ التلميذات إلى الغدِ الجميل، فجعلت منه مسرحاً للحياة، تنبثقُ من فوقه ابتساماتُ الأمل والإشراق والصلاح، فما أبهى منظر التلميذات المحجبات تلفّهنّ براءةٌ تختلطُ بنظرةٍ إلى السماء، تدعو الله لكل تربوية مخلصة !
إن شمعةً حقيقيةً في واقعٍ مظلمٍ كئيبِ، تجعلك تدور حول أسوارها كي تحميها من سواعد الشؤم والإحباط التي تحاول إطفاء شعلتها احتجاجاً على صمودها أمام الرياح، بينما تنطفئُ شموعٌ من (نفخةٍ طفلٍ صغير)، وهذه الابتدائيةُ شمعةٌ شامخةٌ في المدينة !
هنا أتوجّه إلى مدير عام التربية والتعليم للبنات، إلى المجتمع التربوي بأكمله، إلى المجتمع الكبير بكل شرائحه، وإلى كل من يقرأ أقول : في الابتدائية الواحدة والعشرين للبنات بسكاكا (حالةٌ) تستحقُّ الدراسة، وجدولة زيارات للمديرات والمعلمات بشكل يومي؛ كي يتعلّمن صناعة الحياة بأحجار المصاعب، وتحويل العقبات إلى درجاتٍ في سُلّم الارتقاء نحو العلا، وتطبيق تجارب تربوية ناجحة على محاور ومراحل متعددة ..
دعونا نتعلّمُ الاحتفاء بالإيجابي، تحفيزاً للآخرين، ومتأكدٌ بأنّ كل من يعيش الحالة الحادثة في تلك المدرسة سوف يقفُ على حالته هوَ، فإن كان في روحه شيئاً من أمل فسوف يحيى في أعماقه إنسانٌ آخر !
أخيراً ..
لولا (فوبيا ذكر أسماء النساء) المستشرية في مجتمعنا، لذكرتُ أسماء طاقم المدرسة بالكامل تقديراً على جهودهنّ الجبّارة في خلق وحفظ بيئةٍ مختلفة كليّاً عن واقعنا (التعيس)، ورغم هذا لايعني حديثي بأن درجة الكمال تحققت، فمن يعشقُ العطاء سيرى نفسه مقصراً وإن نجح وارتقى واعتلى !
* عنونتُ المقالة بهذه الكلمات لأنه المسؤول الأول عن كل العمليات الحادثة في مدارس تعليم البنات، وعليه تقعُ مسؤولية التغيير العاجلة .
كتبه : جميل بن فرحان اليوسف